سورة النساء - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)}
فيه أربع عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {وَالْمُحْصَناتُ} عطف على المحرمات والمذكورات قبل. والتحصن: التمنع، ومنه الحصن لأنه يمتنع فيه، ومنه قوله تعالى: {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} أي لتمنعكم، ومنه الحصان للفرس بكسر الحاء لأنه يمنع صاحبه من الهلاك. والحصان بفتح الحاء: المرأة العفيفة لمنعها نفسها من الهلاك. وحصنت المرأة تحصن فهي حصان، مثل جبنت فهي جبان.
وقال حسان في عائشة رضي الله عنها:
حصان رزان ما تزن بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
والمصدر الحصانة بفتح الحاء والحصن كالعلم. فالمراد بالمحصنات هاهنا ذوات الأزواج، يقال: امرأة محصنة أي متزوجة، ومحصنة أي حرة، ومنه: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ}. ومحصنة أي عفيفة، قال الله تعالى: {مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ} وقال: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ}. ومحصنة ومحصنة وحصان أي عفيفة، أي ممتنعة من الفسق، والحرية تمنع الحرة مما يتعاطاه العبيد. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ} أي الحرائر، وكان عرف الإماء في الجاهلية الزنى، ألا ترى إلى قول هند بنت عتبة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بايعته: «وهل تزني الحرة؟» والزوج أيضا يمنع زوجه من أن تزوج غيره، فبناء (ح ص ن) معناه المنع كما بينا. وستعمل الإحصان في الإسلام، لأنه حافظ ومانع، ولم يرد في الكتاب وورد في السنة، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الايمان قيد الفتك». ومنه قول الهذلي:
فليس كعهد الدار يا أم مالك *** ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وقال الشاعر:
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا *** يأبى عليك الله والإسلام
ومنه قول سحيم:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا ***
الثانية: إذا ثبت هذا فقد اختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري: المراد بالمحصنات هنا المسبيات ذوات الأزواج خاصة، أي هن محرمات إلا ما ملكت اليمين بالسبي من أرض الحرب، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه وإن كان لها زوج. وهو قول الشافعي في أن السباء يقطع العصمة، وقال ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك، وقال به أشهب. يدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين بعث جيشا إلى أوطاس فلقوا العدو فقاتلوهم وظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا، فكان ناس من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عز وجل في ذلك {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}. أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن. وهذا نص صحيح صريح في أن الآية نزلت بسبب تحرج أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن وطئ المسبيات ذوات الأزواج، فأنزل الله تعالى في جوابهم {إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. واختلفوا في استبرائها بما ذا يكون، فقال الحسن: كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستبرءون المسبية بحيضة، وقد روي ذلك من حديث أبي سعيد الخدري في سبايا أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض». ولم يجعل لفراش الزوج السابق أثرا حتى يقال أن المسبية مملوكة ولكنها كانت زوجة زال نكاحها فتعتد عدة الإماء، على ما نقل عن الحسن بن صالح قال: عليها العدة حيضتان إذا كان لها زوج في دار الحرب. وكافه العلماء رأوا استبراءها واستبراء التي لا زوج لها واحدا في أن الجميع بحيضة واحدة. والمشهور من مذهب مالك أنه لا فرق بين أن يسبى الزوجان مجتمعين أو متفرقين.
وروى عنه ابن بكير أنهما إن سبيا جميعا واستبقي الرجل أقرا علي نكاحهما، فرأى في هذه الرواية أن استبقاءه إبقاء لما يملكه، لأنه قد صار له عهد وزوجته من جملة ما يملكه، فلا يحال بينه وبينها، وهو قول أبي حنيفة والثوري، وبه قال ابن القاسم ورواه عن مالك. والصحيح الأول، لما ذكرناه، ولان الله تعالى قال: {إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} فأحال على ملك اليمين وجعله هو المؤثر فيتعلق الحكم به من حيث العموم والتعليل جميعا، إلا ما خصه الدليل.
وفي الآية قول ثان قاله عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن بن أبي الحسن وأبي بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس في رواية عكرمة: أن المراد بالآية ذوات الأزواج، أي فهن حرام إلا أن يشتري الرجل الامة ذات الزوج فإن بيعها طلاقها والصدقة بها طلاقها وأن تورث طلاقها وتطليق الزوج طلاقها. قال ابن مسعود: فإذا بيعت الامة ولها زوج فالمشتري أحق ببضعها وكذلك المسبية، كل ذلك موجب للفرقة بينها وبين زوجها. قالوا: وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون بيع الامة طلاقا لها، لأن الفرج محرم على اثنين في حال واحدة بإجماع من المسلمين.
قلت: وهذا يرده حديث بريرة، لأن عائشة رضي الله عنها اشترت بريرة وأعتقتها ثم خيرها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانت ذات زوج، وفي إجماعهم على أن بريرة قد خيرت تحت زوجها مغيث بعد أن اشترتها عائشة فأعتقتها لدليل على أن بيع الامة ليس طلاقها، وعلى ذلك جماعة فقهاء الأمصار من أهل الرأي والحديث، وألا طلاق لها إلا الطلاق. وقد احتج بعضهم بعموم قوله: {إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} وقياسا على المسبيات. وما ذكرناه من حديث بريرة يخصه ويرده، وأن ذلك إنما هو خاص بالمسبيات على حديث أبي سعيد، وهو الصواب والحق إن شاء الله تعالى.
وفي الآية قول ثالث- روى الثوري عن مجاهد عن إبراهيم قال ابن مسعود في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} قال: ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين.
وقال علي بن أبي طالب: ذوات الأزواج من المشركين.
وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ} هن ذوات الأزواج، ويرجع ذلك إلى أن الله حرم الزنى. وقالت طائفة: المحصنات في هذه الآية يراد به العفائف، أي كل النساء حرام. وألبسهن اسم الإحصان من كان منهن ذات زوج أو غير ذات زوج، إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك. {إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} قالوا: معناه بنكاح أو شراء. هذا قول أبي العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء، ورواه عبيدة عن عمر، فأدخلوا النكاح تحت ملك اليمين، ويكون معنى الآية عندهم في قوله تعالى: {إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} يعني تملكون عصمتهن بالنكاح وتملكون الرقبة بالشراء، فكأنهن كلهن ملك يمين وما عدا ذلك فزنى، وهذا قول حسن. وقد قال ابن عباس: {الْمُحْصَناتُ} العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب. قال ابن عطية: وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنى، وأسند الطبري أن رجلا قال لسعيد بن جبير: أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية فلم يقل فيها شيئا؟ فقال سعيد: كان ابن عباس لا يعلمها. وأسند أيضا عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل: قوله: {وَالْمُحْصَناتُ} إلى قوله: {حَكِيماً}. قال ابن عطية: ولا أدري كيف نسب هذا القول إلى ابن عباس ولا كيف انتهى مجاهد إلى هذا القول؟ الثالثة: قوله تعالى: {كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} نصب على المصدر المؤكد، أي حرمت هذه النساء كتابا من الله عليكم. ومعنى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} كتب الله عليكم.
وقال الزجاج والكوفيون: هو نصب على الإغراء، أي الزموا كتاب الله، أو عليكم كتاب الله. وفيه نظر على ما ذكره أبو علي، فإن الإغراء لا يجوز فيه تقديم المنصوب على حرف الإغراء، فلا يقال: زيدا عليك، أو زيدا دونك، بل يقال: عليك زيدا ودونك عمرا، وهذا الذي قاله صحيح على أن يكون منصوبا ب {عَلَيْكُمْ}، وأما على تقدير حذف الفعل فيجوز. ويجوز الرفع على معنى هذا كتاب الله وفرضة: وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع {كتب الله عليكم} على الفعل الماضي المسند إلى اسم الله تعالى، والمعنى كتب الله عليكم ما قصه من التحريم.
وقال عبيدة السلماني وغيره: قوله: {كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله تعالى: {مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} وفي هذا بعد، والأظهر أن قوله: {كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله.
الرابعة: قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ} قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص {وَأُحِلَّ لَكُمْ} ردا على {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ}. الباقون بالفتح ردا على قوله تعالى: {كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}. وهذا يقتضي ألا يحرم من النساء إلا من ذكر، وليس كذلك، فإن الله تعالى قد حرم على لسان نبيه من لم يذكر في الآية فيضم إليها، قال الله تعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها».
وقال ابن شهاب: فنرى خالة أبيها وعمة أبيها بتلك المنزلة، وقد قيل: إن تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها متلقى من الآية نفسها، لأن الله تعالى حرم الجمع بين الأختين، والجمع بين المرأة وعمتها في معنى الجمع بين الأختين، أو لان الخالة في معنى الوالدة والعمة في معنى الوالد. والصحيح الأول، لأن الكتاب والسنة كالشيء الواحد، فكأنه قال: أحللت لكم ما وراء ما ذكرنا في الكتاب، وما وراء ما أكملت به البيان على لسان محمد عليه السلام. وقول ابن شهاب: فنرى خالة أبيها وعمة أبيها بتلك المنزلة إنما صار إلى ذلك لأنه حمل الخالة والعمة على العموم وتم له ذلك، لأن العمة اسم لكل أنثى شاركت أباك في أصليه أو في أحدهما والخالة كذلك كما بيناه.
وفي مصنف أبي داود وغيره عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على بنت أخيها ولا المرأة على خالتها ولا الخالة على بنت أختها ولا تنكح الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى».
وروى أبو داود أيضا عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كره أن يجمع بين العمة والخالة وبين العمتين والخالتين. الرواية: «لا يجمع» برفع العين على الخبر على المشروعية فيتضمن النهي عن ذلك، وهذا الحديث مجمع على العمل به في تحريم الجمع بين من ذكر فيه بالنكاح. وأجاز الخوارج الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وخالتها، ولا يعتد بخلافهم لأنهم مرقوا من الدين وخرجوا منه، ولأنهم مخالفون للسنة الثابتة. وقوله: «لا يجمع بين العمتين والخالتين» فقد أشكل على بعض أهل العلم وتحير في معناه حتى حمله على ما يبعد أو لا يجوز، فقال: معنى بين العمتين على المجاز، أي بين العمة وبنت أخيها، فقيل لهما: عمتان، كما قيل: سنة العمرين أبي بكر وعمر، قال: وبين الخالتين مثله. قال النحاس: وهذا من التعسف الذي لا يكاد يسمع بمثله، وفيه أيضا مع التعسف أنه يكون كلاما مكررا لغير فائدة، لأنه إذا كان المعنى نهى أن يجمع بين العمة وبنت أخيها وبين العمتين يعني به العمة وبنت أخيها صار الكلام مكرر الغير فائدة، وأيضا فلو كان كما قال لوجب أن يكون وبين الخالة، وليس كذلك الحديث، لأن الحديث نهى أن يجمع بين العمة والخالة. فالواجب على لفظ الحديث ألا يجمع بين امرأتين إحداهما عمة الأخرى والأخرى خالة الأخرى. قال النحاس: وهذا يخرج على معنى صحيح، يكون رجل وابنه تزوجا امرأة وابنتها، تزوج الرجل البنت وتزوج الابن الام فولد لكل واحد منهما ابنة من هاتين الزوجتين، فابنة الأب عمة ابنة الابن، وابنة الابن خالة ابنة الأب. وأما الجمع بين الخالتين فهذا يوجب أن يكونا امرأتين كل واحدة منهما خالة الأخرى، وذلك أن يكون رجل تزوج ابنة رجل وتزوج الآخر ابنته، فولد لكل واحد منهما ابنة، فابنة كل واحد منهما خالة الأخرى. وأما الجمع بين العمتين فيوجب ألا يجمع بين امرأتين كل واحدة منهما عمة الأخرى، وذلك أن يتزوج رجل أم رجل ويتزوج الآخر أم الآخر، فيولد لكل واحد منهما ابنة فابنة كل واحد منهما عمة الأخرى، فهذا ما حرم الله على لسان رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما ليس في القرآن.
الخامسة: وإذا تقرر هذا فقد عقد العلماء فيمن يحرم الجمع بينهن عقدا حسنا، فروى معتمر بن سليمان عن فضيل بن ميسرة عن أبي جرير عن الشعبي قال: كل امرأتين إذا جعلت موضع إحداهما ذكرا لم يجز له أن يتزوج الأخرى فالجمع بينهما باطل. فقلت له: عمن هذا؟ قال: عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال سفيان الثوري: تفسيره عندنا أن يكون من النسب، ولا يكون بمنزلة امرأة وابنة زوجها يجمع بينهما إن شاء. قال أبو عمر: وهذا على مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي وسائر فقهاء الأمصار من أهل الحديث وغيرهم فيما علمت لا يختلفون في هذا الأصل. وقد كره قوم من السلف أن يجمع الرجل بين ابنة رجل وامرأته من أجل أن أحدهما لو كان ذكرا لم يحل له نكاح الأخرى. والذي عليه العلماء أنه لا بأس بذلك، وأن المراعى النسب دون غيره من المصاهرة، ثم ورد في بعض الاخبار التنبيه على العلة في منع الجمع بين من ذكر، وذلك ما يفضي إليه الجمع من قطع الأرحام القريبة مما يقع بين الضرائر من الشنآن والشرور بسبب الغيرة، فروى ابن عباس قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتزوج الرجل المرأة على العمة أو على الخالة، وقال: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» ذكره أبو محمد الاصيلي في فوائده وابن عبد البر وغيرهما. ومن مراسيل أبي داود عن حسين بن طلحة قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تنكح المرأة على أخواتها مخافة القطيعة، وقد طرد بعض السلف هذه العلة فمنع الجمع بين المرأة وقريبتها، وسواء كانت بنت عم أو بنت عمة أو بنت خال أو بنت خالة، روي ذلك عن إسحاق بن طلحة وعكرمة وقتادة وعطاء في رواية ابن أبي نجيح، وروى عنه ابن جريج أنه لا بأس بذلك وهو الصحيح. وقد نكح حسن بن حسين بن علي في ليلة واحدة ابنة محمد بن علي وابنة عمر بن علي فجمع بين ابنتي عم، ذكره عبد الرزاق. زاد ابن عيينة: فأصبح نساؤهم لا يدرين إلى أيتهما يذهبن، وقد كره مالك هذا، وليس بحرام عنده.
وفي سماع ابن القاسم: سئل مالك عن ابنتي العم أيجمع بينهما؟ فقال: ما أعلمه حراما. قيل له: أفتكرهه؟ قال: إن ناسا ليتقونه، قال ابن القاسم: وهو حلال لا بأس به. قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا أبطل هذا النكاح. وهما داخلتان في جملة ما أبيح بالنكاح غير خارجتين منه بكتاب ولا سنة ولا إجماع، وكذلك الجمع بين ابنتي عمة وابنتي خالة.
وقال السدي في قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ}: يعني النكاح فيما دون الفرج.
وقيل: المعنى وأحل لكم ما وراء ذوات المحارم من أقربائكم. قتادة: يعني بذلك ملك اليمين خاصة.
السادسة: قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ} لفظ يجمع التزوج والشراء. و{أَنْ} في موضع نصب بدل من ما، وعلى قراءة حمزة في موضع رفع، ويحتمل أن يكون المعنى لان، أو بأن، فتحذف اللام أو الباء فيكون في موضع نصب. و{مُحْصِنِينَ} نصب على الحال، ومعناه متعففين عن الزنى. {غَيْرَ مُسافِحِينَ} أي غير زانين. والسفاح الزنى، وهو مأخوذ من سفح الماء، أي صبه وسيلانه، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سمع الدفاف في عرس: «هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر». وقد قيل: إن قوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما- ما ذكرناه وهو الإحصان بعقد النكاح، تقديره اطلبوا منافع البضع بأموالكم على وجه النكاح لا على وجه السفاح، فيكون للآية على هذا الوجه عموم. ويحتمل أن يقال: {مُحْصِنِينَ} أي الإحصان صفة لهن، ومعناه لتزوجوهن على شرط الإحصان فيهن، والوجه الأول أولى، لأنه متى أمكن جري الآية على عمومها والتعلق بمقتضاها فهو أولى، ولان مقتضى الوجه الثاني أن المسافحات لا يحل التزوج بهن، وذلك خلاف الإجماع.
السابعة: قوله تعالى: {بِأَمْوالِكُمْ} أباح الله تعالى الفروج بالأموال ولم يفصل، فوجب إذا حصل بغير المال ألا تقع الإباحة به، لأنها على غير الشرط المأذون فيه، كما لو عقد على خمر أو خنزير أو ما لا يصح تملكه. ويرد على أحمد قوله في أن العتق يكون صداقا، لأنه ليس فيه تسليم مال وإنما فيه إسقاط الملك من غير أن استحقت به تسليم مال إليها، فإن الذي كان يملكه المولى من عنده لم ينتقل إليها وإنما سقط. فإذا لم يسلم الزوج إليها شيئا ولم تستحق عليه شيئا، وإنما أتلف به ملكه، لم يكن مهرا. وهذا بين مع قوله تعالى: {وَآتُوا النِّساءَ} وذلك أمر يقتضي الإيجاب، وإعطاء العتق لا يصح. وقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ} وذلك محال في العتق، فلم يبق أن يكون الصداق إلا مالا، لقوله تعالى: {بِأَمْوالِكُمْ} اختلف من قال بذلك في قدر ذلك، فتعلق الشافعي بعموم قوله تعالى: {بِأَمْوالِكُمْ} في جواز الصداق بقليل وكثير، وهو الصحيح، ويعضده قوله عليه السلام في حديث الموهوبة: «ولو خاتما من حديد». وقوله عليه السلام: «أَنْكِحُوا الْأَيامى»، ثلاثا. قيل: ما العلائق بينهم يا رسول الله؟ قال: «ما تراضى عليه الأهلون ولو قضيبا من أراك». وقال: أبو سعيد الخدري: سألنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صداق النساء فقال: «هو ما اصطلح عليه أهلوهم».
وروى جابر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو أن رجلا أعطى امرأة ملء يديه طعاما كانت به حلالا». أخرجهما الدارقطني في سننه. قال الشافعي: كل ما جاز أن يكون ثمنا لشيء، أو جاز أن يكون أجرة جاز أن يكون صداقا، وهذا قول جمهور أهل العلم. وجماعة أهل الحديث من أهل المدينة وغيرها، كلهم أجازوا الصداق بقليل المال وكثيره، وهو قول عبد الله بن وهب صاحب مالك، واختاره ابن المنذر وغيره. قال سعيد بن المسيب: لو أصدقها سوطا حلت به، وأنكح ابنته من عبد الله بن وداعة بدرهمين.
وقال ربيعة: يجوز النكاح بدرهم.
وقال أبو الزناد: ما تراضى به الأهلون.
وقال مالك: لا يكون الصداق أقل من ربع دينار أو ثلاثة دراهم كيلا. قال بعض أصحابنا في تعليل له: وكان أشبه الأشياء بذلك قطع اليد، لأن البضع عضو واليد عضو يستباح بمقدر من المال، وذلك ربع دينار أو ثلاثة دراهم كيلا، فرد مالك البضع إليه قياسا على اليد. قال أبو عمر: قد تقدمه إلى هذا أبو حنيفة، فقاس الصداق على قطع اليد، واليد عنده لا تقطع إلا في دينار ذهبا أو عشرة دراهم كيلا، ولا صداق عنده أقل من ذلك، وعلى ذلك جماعة أصحابه وأهل مذهبه، وهو قول أكثر أهل بلده في قطع اليد لا في أقل الصداق. وقد قال الدراوردي لمالك إذ قال لا صداق أقل من ربع دينار: تعرقت فيها يا أبا عبد الله. أي سلكت فيها سبيل أهل العراق. وقد احتج أبو حنيفة بما رواه جابر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا صداق دون عشرة دراهم» أخرجه الدارقطني.
وفي سنده مبشر بن عبيد متروك. وروي عن داود الأودي عن الشعبي عن علي عليه السلام: لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم. قال أحمد بن حنبل: لقن غياث بن إبراهيم داود الأودي عن الشعبي عن علي: لا مهر أقل من عشرة دراهم. فصار حديثا.
وقال النخعي: أقله أربعون درهما. سعيد بن جبير: خمسون درهما. ابن شبرمة: خمسة دراهم. ورواه الدارقطني عن ابن عباس عن علي رضي الله عنه: لا مهر أقل من خمسة دراهم.
الثامنة: قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} الاستمتاع التلذذ. والأجور المهور، وسمي المهر أجرا لأنه أجر الاستمتاع، وهذا نص على أن المهر يسمى أجرا، وذلك دليل على أنه في مقابلة البضع، لأن ما يقابل المنفعة يسمى أجرا. وقد اختلف العلماء في المعقود عليه في النكاح ما هو: بدن المرأة أو منفعة البضع أو الحل، ثلاثة أقوال، والظاهر المجموع، فإن العقد يقتضي كل ذلك. والله أعلم.
التاسعة: واختلف العلماء في معنى الآية، فقال الحسن ومجاهد وغيرهما: المعنى فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن، فإذا جامعها مرة واحدة فقد وجب المهر كاملا إن كان مسمى، أو مهر مثلها إن لم يسم. فإن كان النكاح فاسدا فقد اختلفت الرواية عن مالك في النكاح الفاسد، هل تستحق به مهر المثل، أو المسمى إذا كان مهرا صحيحا؟ فقال مرة: المهر المسمى، وهو ظاهر مذهبه، وذلك أن ما تراضوا عليه يقين، ومهر المثل اجتهاد، فيجب أن يرجع إلى ما تيقناه، لأن الأموال لا تستحق بالشك. ووجه قوله: مهر المثل أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها مهر مثلها بما استحل من فرجها». قال ابن خويز منداد: ولا يجوز أن تحمل الآية على جواز المتعة، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن نكاح المتعة وحرمه، ولان الله تعالى قال: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} ومعلوم أن النكاح بإذن الأهلين هو النكاح الشرعي بولي وشاهدين، ونكاح المتعة ليس كذلك.
وقال الجمهور: المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام. وقرأ ابن عباس وأبي وابن جبير {فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن} ثم نهى عنها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال سعيد بن المسيب: نسختها آية الميراث، إذ كانت المتعة لا ميراث فيها. وقالت عائشة والقاسم بن محمد: تحريمها ونسخها في القرآن، وذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} وليست المتعة نكاحا ولا ملك يمين.
وروى الدارقطني عن علي بن أبي طالب قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المتعة، قال: وإنما كانت لمن لم يجد، فلما نزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت.
وروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: نسخ صوم رمضان كل صوم، ونسخت الزكاة كل صدقة، ونسخ الطلاق والعدة والميراث المتعة، ونسخت الأضحية كل ذبح. وعن ابن مسعود قال: المتعة منسوخة نسخها الطلاق والعدة والميراث.
وروى عطاء عن ابن عباس قال: ما كانت المتعة إلا رحمة من الله تعالى رحم بها عباده ولولا نهي عمر عنها ما زنى إلا شقي.
العاشرة: واختلف العلماء كم مرة أبيحت ونسخت، ففي صحيح مسلم عن عبد الله قال: كنا نغزو مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس لنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل. قال أبو حاتم البستي في صحيحه: قولهم للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا نستخصي» دليل على أن المتعة كانت محظورة قبل أن أبيح لهم الاستمتاع، ولو لم تكن محظوره لم يكن لسؤالهم عن هذا معنى، ثم رخص لهم في الغزو أن ينكحوا المرأة بالثوب إلى أجل ثم نهى عنها عام خيبر، ثم أذن فيها عام الفتح، ثم حرمها بعد ثلاث، فهي محرمة إلى يوم القيامة.
وقال ابن العربي: وأما متعة النساء فهي من غرائب الشريعة، لأنها أبيحت في صدر الإسلام ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت في غزوة أوطاس، ثم حرمت بعد ذلك واستقر الامر على التحريم، وليس لها أخت في الشريعة إلا مسألة القبلة، لأن النسخ طرأ عليها مرتين ثم استقرت بعد ذلك.
وقال غيره ممن جمع طرق الأحاديث فيها: إنها تقتضي التحليل والتحريم سبع مرات، فروى ابن أبي عمرة أنها كانت في صدر الإسلام.
وروى سلمة بن الأكوع أنها كانت عام أو طاس. ومن رواية علي تحريمها يوم خيبر. ومن رواية الربيع بن سبرة إباحتها يوم الفتح.
قلت: وهذه الطرق كلها في صحيح مسلم، وفي غيره عن علي نهيه عنها في غزوة تبوك، رواه إسحاق بن راشد عن الزهري عن عبد الله بن محمد بن علي عن أبيه عن علي، ولم يتابع إسحاق بن راشد على هذه الرواية عن ابن شهاب، قاله أبو عمر رحمه الله.
وفي مصنف أبي داود من حديث الربيع بن سبرة النهي عنها في حجة الوداع، وذهب أبو داود إلى أن هذا أصح ما روي في ذلك.
وقال عمرو عن الحسن ما حلت المتعة قط إلا ثلاثا في عمرة القضاء ما حلت قبلها ولا بعدها. وروي هذا عن سبرة أيضا، فهذه سبعة مواطن أحلت فيها المتعة وحرمت. قال أبو جعفر الطحاوي: كل هؤلاء الذين رووا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إطلاقها أخبروا أنها كانت في سفر، وأن النهي لحقها في ذلك السفر بعد ذلك، فمنع منها، وليس أحد منهم يخبر أنها كانت في حضر، وكذلك روي عن ابن مسعود. فأما حديث سبرة الذي فيه إباحة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها في حجة الوداع فخارج عن معانيها كلها، وقد اعتبرنا هذا الحرف فلم نجده إلا في رواية عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز خاصة، وقد رواه إسماعيل بن عياش عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز فذكر أن ذلك كان في فتح مكة وأنهم شكوا إليه العزبة فرخص لهم فيها، ومحال أن يشكوا إليه العزبة في حجة الوداع، لأنهم كانوا حجوا بالنساء، وكان تزويج النساء بمكة يمكنهم، ولم يكونوا حينئذ كما كانوا في الغزوات المتقدمة. ويحتمل أنه لما كانت عادة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكرير مثل هذا في مغازيه وفي المواضع الجامعة، ذكر تحريمها في حجة الوداع، لاجتماع الناس حتى يسمعه من لم يكن سمعه، فأكد ذلك حتى لا تبقى شبه لاحد يدعي تحليلها، ولان أهل مكة كانوا يستعملونها كثيرا.
الحادية عشرة: روى الليث بن سعد عن بكير بن الأشج عن عمار مولى الشريد قال: سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح؟ قال: لا سفاح ولا نكاح.
قلت: فما هي؟ قال: المتعة كما قال الله تعالى.
قلت: هل عليها عدة؟ قال: نعم حيضة.
قلت: يتوارثان، قال: لا. قال أبو عمر: لم يختلف العلماء من السلف والخلف أن المتعة نكاح إلى أجل لا ميراث فيه، والفرقة تقع عند انقضاء الأجل من غير طلاق.
وقال ابن عطية: وكانت المتعة أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين وإذن الولي إلى أجل مسمى، وعلى أن لا ميراث بينهما، ويعطيها ما اتفقا عليه، فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل ويستبرئ رحمها: لان الولد لا حق فيه بلا شك، فإن لم تحمل حلت لغيره.
وفي كتاب النحاس: في هذا خطأ وأن الولد لا يلحق في نكاح المتعة.
قلت: هذا هو المفهوم من عبارة النحاس، فإنه قال: وإنما المتعة أن يقول لها: أتزوجك يوما- أو ما أشبه ذلك- على أنه لا عدة عليك ولا ميراث بيننا ولا طلاق ولا شاهد يشهد على ذلك، وهذا هو الزنى بعينه ولم يبح قط في الإسلام، ولذلك قال عمر: لا أوتى برجل تزوج متعة إلا غيبته تحت الحجارة.
الثانية عشرة: وقد اختلف علماؤنا إذا دخل في نكاح المتعة هل يحد ولا يلحق به الولد أو يدفع الحد للشبهة ويلحق به الولد على قولين، ولكن يعذر ويعاقب. وإذا لحق اليوم الولد في نكاح المتعة في قول بعض العلماء مع القول بتحريمه، فكيف لا يلحق في ذلك الوقت الذي أبيح، فدل على أن نكاح المتعة كان على حكم النكاح الصحيح ويفارقه في الأجل والميراث.
وحكى المهدوي عن ابن عباس أن نكاح المتعة كان بلا ولي ولا شهود. وفيما حكاه ضعف، لما ذكرنا. قال ابن العربي: وقد كان ابن عباس يقول بجوازها، ثم ثبت رجوعه عنها، فانعقد الإجماع على تحريمها، فإذا فعلها أحد رجم في مشهور المذهب.
وفي رواية أخرى عن مالك: لا يرجم، لأن نكاح المتعة ليس بحرام، ولكن لأصل آخر لعلمائنا غريب انفردوا به دون سائر العلماء، وهو أن ما حرم بالسنة هل هو مثل ما حرم بالقرآن أم لا؟ فمن رواية بعض المدنيين عن مالك أنهما ليسا بسواء، وهذا ضعيف.
وقال أبو بكر الطرطوسي: ولم يرخص في نكاح المتعة إلا عمران بن حصين وابن عباس وبعض الصحابة وطائفة من أهل البيت.
وفي قول ابن عباس يقول الشاعر:
أقول للركب إذ طال الثواء بنا *** يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس
في بضة رخصة الأطراف ناعمة *** تكون مثواك حتى مرجع الناس
وسائر العلماء والفقهاء من الصحابة والتابعين والسلف الصالحين على أن هذه الآية منسوخة، وأن المتعة حرام.
وقال أبو عمر: أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن كلهم يرون المتعة حلا لا على مذهب ابن عباس وحرمها سائر الناس.
وقال معمر: قال الزهري: ازداد الناس لها مقتا حتى قال الشاعر:
قال المحدث لما طال مجلسه *** يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس
كما تقدم.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {أُجُورَهُنَّ} يعم المال وغيره، فيجوز أن يكون الصداق منافع أعيان. وقد اختلف في هذا العلماء، فمنعه مالك والمزني والليث وأحمد وأبو حنيفة وأصحابه، إلا أن أبا حنيفة قال: إذا تزوج على ذلك فالنكاح جائز وهو في حكم من لم يسم لها، ولها مهر مثلها إن دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها المتعة. وكرهه ابن القاسم في كتاب محمد وأجازه أصبغ. قال ابن شاس: فإن وقع مضى في قول أكثر الأصحاب. وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم.
وقال الشافعي: النكاح ثابت وعليه أن يعلمها ما شرط لها. فإن طلقها قبل الدخول ففيها للشافعي قولان: أحدهما أن لها نصف أجر تعليم تلك السورة، والآخر أن لها نصف مهر مثلها.
وقال إسحاق: النكاح جائز. قال أبو الحسن اللخمي: والقول بجواز جميع ذلك أحسن. والإجارة والحج كغير هما من الأموال التي تتملك وتباع وتشترى. وإنما كره ذلك مالك لأنه يستحب أن يكون الصداق معجلا، والإجارة والحج في معنى المؤجل. احتج أهل القول الأول بأن الله تعالى قال: {بِأَمْوالِكُمْ} وتحقيق المال ما تتعلق به الاطماع، ويعد للانتفاع، ومنفعة الرقبة في الإجارة ومنفعة التعليم للعلم كله ليس بمال. قال الطحاوي: والأصل المجتمع عليه أن رجلا لو استأجر رجلا على أن يعلمه سورة القرآن سماها، بدرهم لم يجز، لأن الإجارات لا تجوز إلا لاحد معنيين، إما على عمل بعينه كخياطة ثوب وما أشبهه، وإما على وقت معلوم، وكان إذا استأجره على تعليم سورة فتلك إجارة لا على وقت معلوم ولا على عمل معلوم، وإنما استأجره على أن يعلم، وقد يفهم بقليل التعليم وكثيره في قليل الأوقات وكثيرها. وكذلك لو باعه داره على أن يعلمه سورة من القرآن لم يجز للمعاني التي ذكرناها في الإجارات. وإذا كان التعليم لا يملك به المنافع ولا أعيان الأموال ثبت بالنظر أنه لا تملك به الابضاع. والله الموفق. احتج من أجاز ذلك بحديث سهل بن سعد في حديث الموهوبة، وفيه فقال: «اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن». في رواية قال: «انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن». قالوا: فقئ هذا دليل على انعقاد النكاح وتأخر المهر الذي هو التعليم، وهذا على الظاهر من قوله: «بما معك من القرآن» فإن الباء للعوض، كما تقول: خذ هذا بهذا، أي عوضا منه. وقوله في الرواية الأخرى: «فعلمها» نص في الامر بالتعليم، والمساق يشهد بأن ذلك لأجل النكاح، ولا يلتفت لقول من قال إن ذلك كان إكراما للرجل بما حفظه من القرآن، أي لما حفظه، فتكون الباء بمعنى اللام، فإن الحديث الثاني يصرح بخلافه في قوله: «فعلمها من القرآن». ولا حجة فيما روي عن أبي طلحة أنه خطب أم سليم فقالت: إن أسلم تزوجته فأسلم فتزوجها، فلا يعلم مهر كان أكرم من مهرها، كان مهرها الإسلام فإن ذلك خاص به. وأيضا فإنه لا يصل إليها منه شيء بخلاف التعليم وغيره من المنافع. وقد زوج شعيب عليه السلام ابنته من موسى عليه السلام على أن يرعى له غنما في صداقها، على ما يأتي بيانه في سورة القصص. وقد روي من حديث ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لرجل من أصحابه: «يا فلان هل تزوجت؟» قال: لا، وليس معي ما أتزوج به. قال: «أليس معك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؟» قال: بلى! قال: «ثلث القرآن، أليس معك آية الكرسي؟» قال: بلى! قال: «ربع القرآن، أليس معك {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}؟» قال: بلى! قال: «ربع القرآن، أليس معك {إِذا زُلْزِلَتِ}؟» قال: بلى! قال: «ربع القرآن. تزوج تزوج».
قلت: وقد أخرج الدارقطني حديث سهل من حديث ابن مسعود، وفيه زيادة تبين، ما احتج به مالك وغيره، وفيه فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من ينكح هذه؟» فقام ذلك الرجل فقال: أنا يا رسول الله، فقال: «ألك مال؟» قال: لا، يا رسول الله، قال: «فهل تقرأ من القرآن شيئا؟». قال: نعم، سورة البقرة، وسورة المفصل. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قد أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها وإذا رزقك الله عوضتها». فتزوجها الرجل على ذلك. وهذا نص- لو صح- في أن التعليم لا يكون صداقا. قال الدارقطني: تفرد به عتبة بن السكن وهو متروك الحديث. و{فريضة} نصب على المصدر في موضع الحال، أي مفروضة.
الرابعة عشرة: قوله تعالى: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} أي من زيادة ونقصان في المهر، فإن ذلك سائغ عند التراضي بعد استقرار الفريضة. والمراد إبراء المرأة عن المهر، أو توفية الرجل كل المهر إن طلق قبل الدخول.
وقال القائلون بأن الآية في المتعة: هذا إشارة إلى ما تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة في أول الإسلام، فإنه كان يتزوج الرجل المرأة شهرا على دينار مثلا، فإذا انقضى الشهر فربما كان يقول: زيديني في الأجل أزدك في المهر. فبين أن ذلك كان جائزا عند التراضي.


{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)}
فيه احدى وعشرون مسألة: الأولى: قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} الآية. نبه تعالى على تخفيف في النكاح وهو نكاح الامة لمن لم يجد الطول. واختلف العلماء. في معنى الطول على ثلاثة أقوال: الأول- السعة والغنى، قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وابن زيد ومالك في المدونة. يقال: طال يطول طولا في الإفضال والقدرة. وفلان ذو طول أي ذو قدرة في مال بفتح الطاء. وطولا بضم الطاء في ضد القصر. والمراد هاهنا القدرة على المهر فقول أكثر أهل العلم، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. قال أحمد بن المعذل: قال عبد الملك: الطول كل ما يقدر به على النكاح من نقد أو عرض أو دين على ملي. قال: وكل ما يمكن بيعه وإجارته فهو طول. قال: وليست الزوجة ولا الزوجتان ولا الثلاثة طولا. وقال: وقد سمعت ذلك من مالك رضي الله عنه. قال عبد الملك: لان الزوجة لا ينكح بها ولا يصل بها إلى غيرها إذ ليست بمال. وقد سئل مالك عن رجل يتزوج أمة وهو ممن يجد الطول، فقال: أرى أن يفرق بينهما. قيل له: إنه يخاف العنت. قال: السوط يضرب به. ثم خففه بعد ذلك. القول الثاني: الطول الحرة. وقد اختلف قول مالك في الحرة هل هي طول أم لا، فقال في المدونة: ليست الحرة بطول تمنع من نكاح الامة، إذا لم يجد سعة لأخرى وخاف العنت.
وقال في كتاب محمد ما يقتضي أن الحرة بمثابة الطول. قال اللخمي: وهو ظاهر القرآن. وروي نحو هذا عن ابن حبيب، وقاله أبو حنيفة. فيقتضي هذا أن من عنده حرة فلا يجوز له نكاح الامة وأن عدم السعة وخاف العنت، لأنه طالب شهوة وعنده امرأة، وقال به الطبري واحتج له. قال أبو يوسف: الطول هو وجود الحرة تحته، فإذا كانت تحته حرة فهو ذو طول، فلا يجوز له نكاح الامة. القول الثالث: الطول الجلد والصبر لمن أحب أمة وهويها حتى صار لذلك لا يستطع أن يتزوج غيرها، فإن له أن يتزوج الامة إذا لم يملك هواها وخاف أن يبغي بها وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة، هذا قول قتادة والنخعي وعطاء وسفيان الثوري. فيكون قوله تعالى: {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} على هذا التأويل في صفة عدم الجلد. وعلى التأويل الأول يكون تزويج الامة معلقا بشرطين: عدم السعة في المال، وخوف العنت، فلا يصح إلا باجتماعهما. وهذا هو نص مذهب مالك في المدونة من رواية ابن نافع وابن القاسم وابن وهب وابن زياد. قال مطرف وابن الماجشون: لا يحل للرجل أن ينكح أمة، ولا يقران إلا أن يجتمع الشرطان كما قال الله تعالى.
وقال أصبغ. وروي هذا القول عن جابر بن عبد الله وابن عباس وعطاء وطاوس والزهري ومكحول، وبه قال الشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق، واختاره ابن المنذر وغيره. فإن وجد المهر وعدم النفقة فقال مالك في كتاب محمد: لا يجوز له أن يتزوج أمة.
وقال أصبغ: ذلك جائز، إذ نفقة الامة على أهلها إذا لم يضمها إليه.
وفي الآية قول رابع: قال مجاهد: مما وسع الله على هذه الامة نكاح الامة والنصرانية، وإن كان موسرا.
وقال بذلك أبو حنيفة أيضا، ولم يشترط خوف العنت، إذا لم تكن تحته حرة. قالوا: لان كل مال يمكن أن يتزوج به الأمة يمكن أن يتزوج به الحرة، فالآية على هذا أصل في جواز نكاح الامة مطلقا. قال مجاهد: وبه يأخذ سفيان، وذلك أني سألته عن نكاح الامة فحدثني. عن ابن أبي ليلى عن المنهال عن عباد بن عبد الله عن علي رضي الله عنه قال: إذا نكحت الحرة على الامة كان للحرة يومان وللأمة يوم. قال: ولم ير علي به بأسا. وحجة هذا القول عموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ}. وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} إلى قوله: {ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ}، لقوله عز وجل: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً}. وقد اتفق الجميع على أن للحر أن يتزوج أربعا وإن خاف ألا يعدل. قالوا: وكذلك له تزوج الامة وإن كان واجدا للطول غير خائف للعنت. وقد روي عن مالك في الذي يجد طولا لحرة أنه يتزوج أمة مع قدرته على طول الحرة، وذلك ضعيف من قول. وقد قال مرة أخرى: ما هو بالحرام البين، وأجوزه. والصحيح أنه لا يجوز للحر المسلم أن ينكح أمة غير مسلمة بحال، ولا له أن يتزوج بالأمة المسلمة إلا بالشرطين المنصوص عليهما كما بينا. والعنت الزنى، فإن عدم الطول ولم يخش العنت لم يجز له نكاح الامة، وكذلك إن وجد الطول وخشي العنت. فإن قدر على طول حرة كتابية وهى المسألة: الثانية: فهل يتزوج الامة، اختلف علماؤنا في ذلك، فقيل: يتزوج الامة فإن الامة المسلمة لا تلحق بالكافرة، فأمة مؤمنة خير من حرة مشركة. واختاره ابن العربي.
وقيل: يتزوج الكتابية، لأن الامة وإن كانت تفضلها بالايمان فالكافرة تفضلها بالحرية وهي زوجة. وأيضا فإن ولدها يكون حرا لا يسترق، وولد الامة يكون رقيقا، وهذا هو الذي يتمشى على أصل المذهب.
الثالثة: واختلف العلماء في الرجل يتزوج الحرة على الامة ولم تعلم بها، فقالت طائفة: النكاح ثابت. كذلك قال سعيد بن المسيب وعطاء بن أبرباح والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وروي عن علي.
وقيل: للحرة الخيار إذا علمت. ثم في أي شيء يكون لها الخيار، فقال الزهري وسعيد بن المسيب ومالك وأحمد وإسحاق في أن تقيم معه أو تفارقه.
وقال عبد الملك: في أن تقر نكاح الامة أو تفسخه.
وقال النخعي: إذا تزوج الحرة على الامة فارق الامة إلا أن يكون له منها ولد، فإن كان لم يفرق بينهما.
وقال مسروق: يفسخ نكاح الامة، لأنه أمر أبيح للضرورة كالميتة، فإذا ارتفعت الضرورة ارتفعت الإباحة.
الرابعة: فإن كانت تحته أمتان علمت الحرة بواحدة منهما ولم تعلم بالأخرى فإنه يكون لها الخيار. ألا ترى لو أن حرة تزوج عليها أمة فرضيت، ثم تزوج عليها أمة فرضيت، ثم تزوج عليها أخرى فأنكرت كان ذلك لها، فكذلك هذه إذا لم تعلم بالأمتين وعلمت بواحدة. قال ابن القاسم: قال مالك: وإنما جعلنا الخيار للحرة في هذه المسائل لما قالت العلماء قبلي.
يريد سعيد بن المسيب وابن شهاب وغيرهما. قال مالك: ولولا ما قالوه لرأيته حلالا، لأنه في كتاب الله حلال. فإن لم تكفه الحرة واحتاج إلى أخرى ولم يقدر على صداقها جاز له أن يتزوج الامة حتى ينتهي إلى أربع بالتزويج بظاهر القرآن. رواه ابن وهب عن مالك.
وروى ابن القاسم عنه: يرد نكاحه. قال ابن العربي: والأول أصح في الدليل، وكذلك هو في القرآن، فإن من رضي بالسبب المحقق رضي بالمسبب المرتب عليه، وألا يكون لها خيار، لأنها قد علمت أن له نكاح الأربع، وعلمت أنه إن لم يقدر على نكاح حرة تزوج أمة، وما شرط الله سبحانه عليها كما شرطت على نفسها، ولا يعتبر في شروط الله سبحانه وتعالى علمها. وهذا غاية التحقيق في الباب والانصاف فيه.
الخامسة: قوله تعالى: {الْمُحْصَناتِ} يريد الحرائر، يدل عليه التقسيم بينهن وبين الإماء في قوله: {مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ}. وقالت فرقة: معناه العفائف. وهو ضعيف، لأن الإماء يقعن تحته فأجازوا نكاح إماء أهل الكتاب، وحرموا البغايا من المؤمنات والكتابيات. وهو قول ابن ميسرة والسدي. وقد اختلف العلماء فيما يجوز للحر الذي لا يجد الطول ويخشى العنت من نكاح الإماء، فقال مالك وأبو حنيفة وابن شهاب الزهري والحارث العكلي: له أن يتزوج أربعا.
وقال حماد بن أبي سليمان: ليس له أن ينكح من الإماء أكثر من اثنتين.
وقال الشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق: ليس له أن ينكح من الإماء إلا واحدة. وهو قول ابن عباس ومسروق وجماعة، واحتجوا بقوله تعالى: {ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} وهذا المعنى يزول بنكاح واحدة.
السادسة: قوله تعالى: {فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} أي فليتزوج بأمة الغير. ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز له أن يتزوج أمة نفسه، لتعارض الحقوق واختلافها.
السابعة: قوله تعالى: {مِنْ فَتَياتِكُمُ} أي المملوكات، وهي جمع فتاة. والعرب تقول للمملوك: فتى، وللمملوكة فتاة.
وفي الحديث الصحيح: {لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن ليقل فتاي وفتأتي} وسيأتي. ولفظ الفتى والفتاة يطلق أيضا على الأحرار في ابتداء الشباب، فأما في المماليك فيطلق في الشباب وفي الكبر.
الثامنة: قوله تعالى: {الْمُؤْمِناتِ} بين بهذا أنه لا يجوز التزوج بالأمة الكتابية، فهذه الصفة مشترطة عند مالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، والثوري والأوزاعي والحسن البصري والزهري ومكحول ومجاهد. وقالت طائفة من أهل العلم منهم أصحاب الرأي: نكاح الامة الكتابية جائز. قال أبو عمر: ولا أعلم لهم سلفا في قولهم، إلا أبا ميسرة عمرو بن شرحبيل فإنه قال: إماء أهل الكتاب بمنزلة الحرائر منهن. قالوا: وقوله: {الْمُؤْمِناتِ} على جهة الوصف الفاضل وليس بشرط ألا يجوز غيرها، وهذا بمنزلة قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً} فإن خاف ألا يعدل فتزوج أكثر من واحدة جاز، ولكن الأفضل ألا يتزوج، فكذلك هنا الأفضل ألا يتزوج إلا مؤمنة، ولو تزوج غير المؤمنة جاز. واحتجوا بالقياس على الحرائر، وذلك أنه لما لم يمنع قوله: {الْمُؤْمِناتِ} في الحرائر من نكاح الكتابيات فكذلك لا يمنع قوله: {الْمُؤْمِناتِ} في الإماء من نكاح إماء الكتابيات.
وقال أشهب في المدونة: جائز للعبد المسلم أن يتزوج أمة كتابية. فالمنع عده أن يفضل الزوج في الحرية والدين معا. ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز لمسلم نكاح مجوسية ولا وثنية، وإذا كان حراما بإجماع نكاحهما فكذلك وطؤهما بملك اليمين قياسا ونظرا. وقد روي عن طاوس ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار أنهم قالوا: لا بأس بنكاح الامة المجوسية بملك اليمين. وهو قول شاذ مهجور لم يلتفت إليه أحد من فقهاء الأمصار. وقالوا: لا يحل أن يطأها حتى تسلم. وقد تقدم القول في هذه المسألة في البقرة مستوفى. والحمد لله.
التاسعة: قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ} المعنى أن الله عليم ببواطن الأمور ولكم ظواهرها، وكلكم بنو آدم وأكرمكم عند الله أتقاكم، فلا تستنكفوا من التزوج بالإماء عند الضرورة، وإن كانت حديثة عهد بسباء أو كانت خرساء وما أشبه ذلك. ففي اللفظ تنبيه على أنه ربما كان إيمان أمة أفضل من إيمان بعض الحرائر.
العاشرة: قوله تعالى: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} ابتداء وخبر، كقولك زيد في الدار. والمعنى أنتم بنو آدم.
وقيل: أنتم مؤمنون.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، المعنى: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضكم من بعض: هذا فتاة هذا، وهذا فتاة هذا. فبعضكم على هذا التقدير مرفوع بفعله وهو فلينكح. والمقصود بهذا الكلام توطئة نفوس العرب التي كانت تستهجن ولد الامة وتعيره وتسميه الهجين، فلما جاء الشرع بجواز نكاحها علموا أن ذلك التهجين لا معنى له، وإنما انحطت الامة فلم يجز للحر التزوج بها إلا عند الضرورة، لأنه تسبب إلى إرقاق الولد، وأن الامة لا تفرغ للزوج على الدوام، لأنها مشغولة بخدمة المولى.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} أي بولاية أربابهن المالكين وإذنهم. وكذلك العبد لا ينكح إلا بإذن سيده، لأن العبد مملوك لا أمر له، وبدنه كله مستغرق، لكن الفرق بينهما أن العبد إذا تزوج بغير إذن سيده فإن أجاز السيد جاز، هذا مذهب مالك وأصحاب الرأي، وهو قول الحسن البصري وعطاء بن أبن رباح وسعيد ابن المسيب وشريح والشعبي. والامة إذا تزوجت بغير إذن أهلها فسخ ولم يجز بإجازة السيد، لأن نقصان الأنوثة في الامة يمنع من انعقاد النكاح البتة وقالت طائفة: إذا نكح العبد بغير إذن سيده فسخ نكاحه، هذا قول الشافعي والأوزاعي وداود بن علي، قالوا: لا تجوز إجازة المولى إن لم يحضره، لأن العقد الفاسد لا تصح إجازته، فإن أراد النكاح استقبله على سنته. وقد أجمع علماء المسلمين على أنه لا يجوز نكاح العبد بغير إذن سيده. وقد كان ابن عمر يعد العبد بذلك زانيا ويحده، وهو قول أبي ثور.
وذكر عبد الرزاق عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، وعن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه أخذ عبد اله نكح بغير إذنه فضربه الحد وفرق بينهما وأبطل صداقها. قال: وأخبرنا ابن جريج عن موسى بن عقبة أنه أخبره عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرى نكاح العبد بغير إذن وليه زنى، ويرى عليه الحد، ويعاقب الذين أنكحوهما. قال: وأخبرنا ابن جريج عن عبد الله بن محمد بن عقيل قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أيما عبد نكح بغير إذن سيده فهو عاهر». وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هو نكاح حرام، فإن نكح بإذن سيده فالطلاق بيد من يستحل الفرج. قال أبو عمر: على هذا مذهب جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق، ولم يختلف عن ابن عباس أن الطلاق بيد السيد، وتابعه على ذلك جابر بن زيد وفرقة. وهو عند العلماء شذوذ لا يعرج عليه، وأظن ابن عباس تأول في ذلك قول الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ}. وأجمع أهل العلم على أن نكاح العبد جائز بإذن مولاه، فإن نكح نكاحا فاسدا فقال الشافعي: إن لم يكن دخل فلا شيء لها، أن كان دخل فعليه المهر إذا عتق، هذا هو الصحيح من مذهبه، وهو قول أبي يوسف ومحمد لا مهر عليه حتى يعتق.
وقال أبو حنيفة: إن دخل عليها فلها المهر.
وقال مالك والشافعي: إذا كان عبد بين رجلين فأذن له أحدهما في النكاح فنكح فالنكاح باطل، فأما الامة إذا آذنت أهلها في النكاح فأذنوا جاز، وإن لم تباشر العقد لكن تولي من يعقده عليها.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} دليل على وجوب المهر في النكاح، وأنه للامة. {بِالْمَعْرُوفِ} معناه بالشرع والسنة، وهذا يقتضي أنهن أحق بمهورهن من السادة، وهو مذهب مالك. قال في كتاب الرهون: ليس للسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز.
وقال الشافعي: الصداق للسيد، لأنه عوض فلا يكون للامة. أصله إجازة المنفعة في الرقبة، وإنما ذكرت لان المهر وجب بسببها. وذكر القاضي إسماعيل في أحكامه: زعم بعض العراقيين إذا زوج أمته من عبده فلا مهر. وهذا خلاف الكتاب والسنة وأطنب فيه.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {الْمُحْصَناتِ} أي عفائف. وقرأ الكسائي {محصنات} بكسر الصاد في جميع القرآن، إلا في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ}. وقرأ الباقون بالنصب في جميع القرآن. ثم قال: {غَيْرَ مُسافِحاتٍ} أي غير زوان، أي معلنات بالزنى، لأن أهل الجاهلية كان فيهم الزواني في العلانية، ولهن رايات منصوبات كراية البيطار.
{وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ} أصدقاء على الفاحشة، واحدهم خدن وخدين، وهو الذي يخادنك، ورجل خدنة، إذا اتخذ أخذ انا أي أصحابا، عن أبي زيد.
وقيل: المسافحة المجاهرة بالزنى، أي التي تكري نفسها لذلك. وذات الخدن هي التي تزني سرا.
وقيل: المسافحة المبذولة، وذات الخدن التي تزني بواحد. وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنى، ولا تعيب اتخاذ الأخدان، ثم رفع الإسلام جميع ذلك، وفي ذلك نزل قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ}، عن ابن عباس وغيره.
الرابعة عشرة: قوله تعالى: {فَإِذا أُحْصِنَّ} قراءة عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمزة. الباقون بضمها. فبالفتح معناه أسلمن، وبالضم زوجن. فإذا زنت الامة المسلمة جلدت نصف جلد الحرة، وإسلامها هو إحصانها في قول الجمهور: ابن مسعود والشعبي والزهري وغيرهم. وعليه فلا تحد كافرة إذا زنت، وهو قول الشافعي فيما ذكر ابن المنذر.
وقال آخرون: إحصانها التزوج بحر. فإذا زنت الامة المسلمة التي لم تتزوج فلا حد عليها، قاله سعيد بن جبير والحسن وقتادة، وروي عن ابن عباس وأبي الدرداء، وبه قال أبو عبيد. قال: وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن حد الامة فقال: إن الامة ألقت فروة رأسها من وراء الدار. قال الأصمعي: الفروة جلدة الرأس. قال أبو عبيد: وهو لم يرد الفروة بعينها، وكيف تلقى جلدة رأسها من وراء الدار، ولكن هذا مثل! إنما أراد بالفروة القناع، يقول ليس عليها قناع ولا حجاب، وأنها تخرج إلى كل موضع يرسلها أهلها إليه، لا تقدر على الامتناع من ذلك، فتصير حيث لا تقدر على الامتناع من الفجور، مثل رعاية الغنم وأداء الضريبة ونحو ذلك، فكأنه رأى أن لا حد عليها إذا فجرت، لهذا المعنى. وقالت فرقة: إحصانها التزوج، إلا أن الحد واجب على الامة المسلمة غير المتزوجة بالسنة، كما في صحيح البخاري ومسلم أنه قيل: يا رسول الله، الامة إذا زنت ولم تحصن؟ فأوجب عليها الحد. قال الزهري: فالمتزوجة محدوده بالقرآن، والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث. قال القاضي إسماعيل في قول من قال: {فَإِذا أُحْصِنَّ} أسلمن: بعد، لأن ذكر الايمان قد تقدم لهن في قوله تعالى: {مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ}. وأما من قال: {فَإِذا أُحْصِنَّ} تزوجن، وأنه لا حد على الامة حتى تتزوج، فإنهم ذهبوا إلى ظاهر القرآن وأحسبهم لم يعلموا هذا الحديث. والامر عندنا أن الامة إذا. زنت وقد أحصنت مجلودة بكتاب الله، وإذا زنت ولم تحصن مجلودة بحديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا رجم عليها، لأن الرجم لا يتنصف. قال أبو عمر: ظاهر قول الله عز وجل يقتضي ألا حد على أمة وإن كانت مسلمة إلا بعد التزويج، ثم جاءت السنة بجلدها وإن لم تحصن، فكان ذلك زيادة بيان.
قلت: ظهر المؤمن حمى لا يستباح إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف، لولا ما جاء في صحيح السنة من الجلد في ذلك. والله أعلم.
وقال أبو ثور فيما ذكر ابن المنذر: وإن كانوا اختلفوا في رجمهما فإنهما يرجمان إذا كانا محصنين، وإن كان إجماع فالإجماع أولى.
الخامسة عشرة: واختلف العلماء فيمن يقيم الحد عليهما، فقال ابن شهاب: مضت السنة أن يحد العبد والامة أهلوهم في الزنى، إلا أن يرفع أمرهم إلى السلطان فليس لاحد أن يفتات عليه، وهو مقتضى قوله عليه السلام: «إذا زنت أمة أحدكم فليحدها الحد».
وقال علي رضي الله عنه في خطبته: يا أيها الناس، أقيموا على أرقائكم الحد، من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زنت فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديث عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «أحسنت». أخرجه مسلم موقوفا عن علي. وأسنده النسائي وقال فيه: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن منهم ومن لم يحصن» وهذا نص في إقامة السادة الحدود على المماليك من أحصن منهم ومن لم يحصن. قال مالك رضي الله عنه: يحد المولى عبده في الزنى وشرب الخمر والقذف إذا شهد عنده الشهود بذلك، ولا يقطعه في السرقة، وإنما يقطعه الامام، وهو قول الليث. وروي عن جماعة من الصحابة أنهم أقاموا الحدود على عبيدهم، منهم ابن عمر وأنس، ولا مخالف لهم من الصحابة. وروي عن ابن أبي ليلى أنه قال: أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا زنت، في مجالسهم.
وقال أبو حنيفة: يقيم الحدود على العبيد والإماء السلطان دون المولى في الزنى وسائر الحدود، وهو قول الحسن بن حي.
وقال الشافعي: يحده المولى في كل حد ويقطعه، واحتج بالأحاديث التي ذكرنا.
وقال الثوري والأوزاعي: يحده في الزنى، وهو مقتضى الأحاديث، والله أعلم. وقد مضى القول في تغريب العبيد في هذه السورة.
السادسة عشرة: فإن زنت الامة ثم عتقت قبل أن يحدها سيدها لم يكن له سبيل إلى حدها، والسلطان يجلدها إذا ثبت ذلك عنده، فإن زنت ثم تزوجت لم يكن لسيدها أن يجلدها أيضا لحق الزوج، إذ قد يضره ذلك. وهذا مذهب مالك إذا لم يكن الزوج ملكا للسيد، فلو كان، جاز للسيد ذلك لان حقهما حقه.
السابعة عشرة: فإن أقر العبد بالزنى وأنكره المولى فإن الحد يجب على العبد لإقراره، ولا التفات لما أنكره المولى، وهذا مجمع عليه بين العلماء. وكذلك المدبر وام الولد والمكاتب والمعتق بعضه. وأجمعوا أيضا على أن الامة إذا زنت ثم أعتقت حدت حد الإماء، وإذا زنت وهي لا تعلم بالعتق ثم علمت وقد حدت أقيم عليها تمام حد الحرة، ذكره ابن المنذر.
الثامنة عشرة واختلفوا في عفو السيد عن عبده وأمته إذا زنيا، فكان الحسن البصري يقول: له أن يعفو.
وقال غير الحسن: لا يسعه إلا إقامة الحد، كما لا يسع السلطان أن يعفو عن حد إذا علمه، لم يسع السيد كذلك أن يعفو عن أمته إذا وجب عليها الحد، وهذا على مذهب أبي ثور. قال ابن المنذر: وبه نقول.
التاسعة عشرة: قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ} أي الجلد ويعني بالمحصنات هاهنا الأبكار الحرائر، لأن الثيب عليها الرجم والرجم لا يتبعض، وإنما قيل للبكر محصنة وإن لم تكن متزوجة، لأن الإحصان يكون بها، كما يقال: أضحية قبل أن يضحي بها، وكما يقال للبقرة: مثيرة قبل أن تثير.
وقيل: {المحصنات} المتزوجات، لأن عليها الضرب والرجم في الحديث، والرجم لا يتبعض فصار عليهن نصف الضرب. والفائدة في نقصان حدهن أنهن أضعف من الحرائر. ويقال: إنهن لا يصلن إلى مرادهن كما تصل الحرائر.
وقيل: لان العقوبة تجب على قدر النعمة، ألا ترى أن الله تعالى قال لأزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} فلما كانت نعمتهن أكثر جعل عقوبتهن أشد، وكذلك الإماء لما كانت نعمتهن أقل فعقوبتهن أقل. وذكر في الآية حد الإماء خاصة، ولم يذكر حد العبيد، ولكن حد العبيد والإماء سواء: خمسون جلدة في الزنى، وفي القذف وشرب الخمر أربعون، لأن حد الامة إنما نقص لنقصان الرق فدخل الذكور من العبيد في ذلك بعلة المملوكية، كما دخل الإماء تحت قوله عليه السلام: «من أعتق شركا له في عبد». وهذا الذي يسميه العلماء القياس في معنى الأصل، ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ} الآية. فدخل في ذلك المحصنين قطعا، على ما يأتي بيانه في سورة النور إن شاء الله تعالى. العشرون: وأجمع العلماء على أن بيع الامة الزانية ليس بيعها بواجب لازم على ربها، وإن اختاروا له ذلك، لقوله عليه السلام: «إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر». أخرجه مسلم عن أبي هريرة.
وقال أهل الظاهر بوجوب بيعها في الرابعة. منهم داود وغيره، لقوله: «فليبعها» وقوله: «ثم بيعوها ولو بضفير». قال ابن شهاب: فلا أدري بعد الثالثة أو الرابعة، والضفير الحبل. فإذا باعها عرف بزناها، لأنه عيب فلا يحل أن يكتم. فإن يكتم. فإن قيل: إذا كان مقصود الحديث أبعاد الزانية ووجب على بائعها التعريف بزناها فلا ينبغي لاحد أن يشتريها، لأنها مما قد أمرنا بإبعادها. فالجواب أنها مال ولا تضاع، للنهي عن إضاعة المال، ولا تسيب، لأن ذلك إغراء لها بالزنى وتمكين منه، ولا تحبس دائما، فإن فيه تعطيل منفعتها على سيدها فلم يبق إلا بيعها. ولعل السيد الثاني يعفها بالوطي أو يبالغ في التحرز فيمنعها من ذلك. وعلى الجملة فعند تبدل الملاك تختلف عليها الأحوال. والله أعلم.
الحادية والعشرون: قوله تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي الصبر على العزبة خير من نكاح الامة، لأنه يفضي إلى إرقاق الولد، والغض من النفس والصبر على مكارم الأخلاق أولى من البذالة. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه. يعني يصير ولده رقيقا، فالصبر عن ذلك أفضل لكيلا يرق الولد.
وقال سعيد بن جبير: ما نكاح الامة من الزنى إلا قريب، قال الله تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، أي عن نكاح الإماء.
وفي سنن ابن ماجه عن الضحاك بن مزاحم قال: سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر». ورواه أبو إسحاق الثعلبي من حديث يونس بن مرداس، وكان خادما لأنس، وزاد: فقال أبو هريرة سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت- أو قال- فساد البيت».


{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)}
أي ليبين لكم أمر دينكم ومصالح أمركم، وما يحل لكم وما يحرم عليكم. وذلك يدل على امتناع خلو واقعة عن حكم الله تعالى، ومنه قوله تعالى: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ} على ما يأتي.
وقال بعد هذا: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} فجاء هذا بأن والأول باللام. فقال الفراء: العرب تعاقب بين لام كي وأن، فتأتي باللام التي على معنى كي في موضع أن في أردت وأمرت، فيقولون: أردت أن تفعل، وأردت لتفعل، لأنهما يطلبان المستقبل. ولا يجوز ظننت لتفعل، لأنك تقول ظننت أن قد قمت.
وفي التنزيل: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}. {وأمرنا لنسلم لرب العالمين}. {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ}. {يريدون أن يطفئوا نور الله}. قال الشاعر:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما *** تمثل لي ليلى بكل سبيل
يريد أن أنسى. قال النحاس: وخطأ الزجاج هذا القول وقال: لو كانت اللام بمعنى أن لدخلت عليها لام أخرى، كما تقول: جئت كي تكرمني، ثم تقول جئت لكي تكرمني. وأنشدنا:
أردت لكيما يعلم الناس أنها *** سراويل قيس والوفود شهود
قال: والتقدير إرادته ليبين لكم. قال النحاس: وزاد الامر على هذا حتى سماها بعض القراء لام أن، وقيل: المعنى يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم. {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي من أهل الحق.
وقيل: معنى: {يَهْدِيَكُمْ} يبين لكم طرق الذين من قبلكم من أهل الحق وأهل الباطل.
وقال بعض أهل النظر: في هذا دليل على أن كل ما حرم الله قبل هذه الآية علينا فقد حرم على من كان قبلنا. قال النحاس: وهذا غلط، لأنه يكون المعنى ويبين لكم أمر من كان قبلكم ممن كان يجتنب ما نهي عنه، وقد يكون ويبين لكم كما بين لمن كان قبلكم من الأنبياء فلا يومى به إلى هذا بعينه. ويقال: إن قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ} ابتداء القصة، أي يريد الله أن يبين لكم كيفية طاعته. {وَيَهْدِيَكُمْ} يعرفكم {سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أنهم لما تركوا أمري كيف عاقبتهم، وأنتم إذا فعلتم ذلك لا أعاقبكم ولكني أتوب عليكم. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بمن تاب {حَكِيمٌ} بقبول التوبة.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10